كتب علي لفتة سعيد…لا تقتصر أهمية التعداد السكاني على كونه مجرد عملية لحصر أعداد السكان في البلد، بل تتعدّى ذلك إلى مجموعة من العوامل التي تؤثّر في ثقافة المجتمع وتعزّز شعور المواطنين بالانتماء.
فالإحصاء السكاني يعني ممارسة الحقّ الذي يُوازي في أهميته ممارسة الحقّ الانتخابي لاختيار أعضاء مجلس النواب الذين يُشكّلون الحكومة، إذ تعتمد الحكومة على الأرقام الدقيقة التي يتمخّض عنها التعداد في صياغة خططها وسياساتها، مما يجعل عملها ونتائجها وخدمتها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بتلك النتائج المهمّة.
إنّ المشاركة في التعداد تُعدّ ممارسةً ديمقراطيةً من جانب، وثقافيةَ من جانب آخر، بالإضافة إلى كونها وسيلةً لاستحصال الحقوق المستقبلية. وعلى المواطن أن يدرك أن أوّل تعداد سكاني في العالم أُجري في بلاد ما بين النهرين (ميزوبوتاميا) حوالي عام 3800 قبل الميلاد، وكان الهدف منه تسجيل الموارد، مثل الأفراد والماشية والمحاصيل، لأغراض الضرائب وتنظيم المجتمع، وقد استخدمت الحضارة السومرية الألواح الطينية لتوثيق هذه البيانات. وفي مصر القديمة، أُجري تعداد في زمن الفراعنة حوالي عام 3000 قبل الميلاد، بهدف حصر السكان والممتلكات لتحديد الضرائب. وفي الصين القديمة، يُعدّ التعداد الذي أُجري عام 2238 قبل الميلاد في عهد الإمبراطور يو، من أقدم التعدادات المعروفة، حيث استخدم لتحديد الأيدي العاملة والموارد اللازمة لبناء مشاريع الري. كما كان للإمبراطورية الرومانية دور بارز في إجراء التعدادات، حيث نظّمت في القرن السادس قبل الميلاد بشكلٍ دوريّ كلّ خمس سنواتٍ لحصر السكان والممتلكات لأغراض عسكرية ومالية.
إنّ التعداد السكاني ليس ممارسة أوروبية أو غربية كما يعتقد البعض، بل هو ممارسة قديمة استفاد منها الغرب لاحقًا، إذ ورد ذكرها في النصوص الدينية، مثل القرآن الكريم والتوراة، مما يعكس تاريخها العريق وأهميتها في تطوّر الحضارات وتنظيم المجتمعات وتخطيط الموارد.
يعدّ التعداد السكاني مسؤولية تقع على عاتق المواطن، ويتطلّب تقديم معلومات صحيحة ودقيقة. فلا مجال للتضليل أو إخفاء البيانات، إذ قد يعتقد البعض خطأً أن هذه العملية ترتبط بالرواتب أو التعيينات أو تقديم المساعدات الاقتصادية. لكن في الحقيقة، هي عملية تتعلّق بالجمع الكلّي للسكان وتهدف إلى تحسين الخدمات العامة، مثل الطرق، والإسكان، والتعليم، والصحة، ومعالجة الفقر والتفاوت الاجتماعي. فالأسئلة التي يطرحها الموظّف الإحصائي قد تبدو شخصية أحيانًا، لكنها تهدف إلى بناء منظومة مجتمعية شاملة.
لذا، فإنّ مشاركة المواطن في التعداد تعكس وعيه وانتماءه الوطني، فهي ممارسة تُسهم بشكل مباشر في التخطيط الاقتصادي والاجتماعي. فالتعداد يُمكّن الحكومات من معرفة عدد السكان وتوزيعهم الجغرافي، مما يساعد في تصميم خطط تنموية مناسبة وتوزيع الموارد والخدمات العامة بكفاءة. كما يوفّر التعداد بيانات دقيقة عن الخصائص الديموغرافية للسكان، مثل العمر، والجنس، والمستوى التعليمي، والمهنة، مما يُتيح اتخاذ قرارات مبنية على أسس واقعية.
من بين الفوائد الأخرى للتعداد، تطوير السياسات العامة، مثل سياسات الإسكان والرعاية الصحية، وتعزيز النمو الاقتصادي من خلال توجيه الاستثمارات إلى القطاعات الأكثر احتياجًا، والاستجابة للأزمات والطوارئ، مثل الكوارث الطبيعية أو الأزمات الصحية، حيث تُستخدم بيانات التعداد لتوجيه الدعم إلى المناطق الأكثر تضرّرًا. كما يُساهم في تحديد توزيع الدوائر الانتخابية وضمان التمثيل العادل للسكان في المؤسسات التشريعية.
وبالإضافة إلى ذلك، يُساعد التعداد في متابعة التغيّرات السكانية، مثل الشيخوخة أو التحضّر، مما يُمكّن الحكومات من التنبّؤ بالاحتياجات المستقبلية. كما يوفّر التعداد قاعدة بيانات قيمة للباحثين في مجالات علم الاجتماع، والاقتصاد، والديموغرافيا، مما يسهم في دراسة الظواهر السكانية وتوجيه الأبحاث العلمية.
إنّ التعداد السكاني ليس مجرّد عمليةٍ تقنيةٍ لجمع البيانات، بل هو عمليةٌ وطنيةٌ تعكس وعي المواطن وانتماءه، وتعتبر أساسًا لتطوير المجتمع وتحقيق التنمية المستدامة. ليس على الأقل للحاضر، الذي قد يراه المواطن لا ينعكس بشكلٍ مباشر، بل على الأجيال المقبلة بما فيههم الأولاد والأحفاد.