كتب باقر صاحب: في البدء، نقول إن دول العالم الرأسمالي هي المهيمن الرئيس على غالبية مُخرجات التقدم التكنولوجي في كوكبنا الأرضي، وتُعّدُّ الهيمنة الرقمية على بشريّة هذا الكوكب أولى تلك المخرجات الآن، مُجسّدةً في صناعة الهواتف الذكية، وإذا ما اطّلعنا على آخر الاحصاءات في هذا الشأن، تجلّت لنا فداحة سلبيات تلك الهيمنة، التي تغطيّ بشكل أو بآخر، كما سنبيّن لاحقاً، على إيجابياتها.
تقول تلك الإحصائيات بأنّ “عدد سكان العالم 8.03 مليارات نسمة، وعدد مستخدمي الهواتف النقالة 5.48 مليارات شخص، أي ما يعادل 68 % من سكان العالم، وبحسب بيانات شركة إريكسون للهواتف، فإنّ في العالم حوالي 7 مليارات هاتف مُستخدَم حالياً”.
هذه الإحصاءات، تفيد بالتأكيد، الشركات الكبرى المصنّعة للهواتف الذكية، فوائد كبيرة، فتتنافس فيما بينها، في طرح آخر الموديلات في كلِّ عام، مع إعلانات الدعاية الضخمة، بشأن الميزات المُبتكرة لهذه الموديلات، وعلى هذا، أصبحت الهواتف الذكية سلعةً استهلاكيةً من الطراز الأول، تتجدّد موديلاتها كلّ عام، وتندثر مثيلتها القديمة.
بما يدرّه هذا التجديد السنوي من أرباحٍ خياليةٍ للشركات الكبرى، منها “آبل” و”سامسونج” و”هواوي”.
جاذبية الهواتف الذكية، تكمن في أنّها أصغر الوسائط التقنية المُيسَّرة لاستخدام الانترنت، هذا الذي جعل العالم قريةً صغيرة، جاذبيتها أيضاً في التواصل السلس، غير المسبوق، مع العالم الخارجي.
تلك الجاذبيات، مع التطوّر المتواصل لموديلات “العالم الصغير” أدّت، بغالبية، مستخدميه إلى الدخول رغماً عنهم، إلى مرحلة “الإدمان الرقمي”، بذلك تغيّرت عقول الناس، الذين أدمنوا على استخدام هذه العلب الرقمية الصغيرة.
وتذكر الكاتبة الفرنسية إلزا غودار، صاحبة كتاب “أنا أو سيلفي إذن أنا موجود: تحولات الأنا في العصر الافتراضي”، ترجمة سعيد بنكراد، بحسب اطّلاعاتنا عنه، بأنّ الهاتف الذكي، الآن، هو الشريك الأقرب للإنسان الحديث، فسوّره، هذا الجهاز، بعلاقاتٍ افتراضية، تيسّر له مغادرة عالم التواصل الواقعي مع الآخرين بسهولة، وكلٌّ منّا يلحظ ذلك، حيثما وُجدت التجمعات البشرية، في المقاهي والمطاعم والمتنزهات ووسائل النقل، إذ “تحضر الأجساد فيما تكون العقول في عوالم أخرى”.
نحن نعرف أنّ الأنا ارتبطت بالمفهوم بالفلسفي بالبرهان العقلي وصناعة الهوية، ويتبادر إلى أذهاننا، طبعاً، قول ديكارت: أنا أفكّر، إذن أنا موجود ولكن، العصر الرقمي، كما ترى غودار، أحدث “تشويشاً” على مفهوم الأنا، فقد أصبحت الأنا محدّدةً بالشاشة الزرقاء الصغيرة، أو الشاشة بديل الأنا، كما هو عنوان كتاب غودار: “أنا أو سيلفي إذن أنا موجود”، التي تشير إلى ما هو أخطر، بأنّ الأنا أصبحت “علامةً تجاريةً تَتداول في الأسواق وتُباع بثمنٍ زهيد”، أو إننا “أصبحنا عبارةً عن صور”، ما يشير إلى الانفصال المتعاظم بين الأنا الواقعية والأنا الافتراضية، وبعبارةٍ أخرى، يقودنا ذلك إلى المفاهيم المتداولة، بشأن الذات، عن العالم الرأسمالي، مثل “تسليع الذات” أو تشيئة الذات”.
يمكن القول إنّ الإنسان الحديث، بات سجين عزلةٍ رقميةٍ، ليست من اختياره، بل هي عزلةٌ إجبارية، وهذا يعني فقدان الإرادة الإنسانيّة، ذلك واضحٌ، من التصفّح الدائم لمحتويات المحمول، من دون وعي، وكأنّ البشر أصبحوا ألعاباً بأيدي جوّالاتهم، وليست الأخيرة ألعاباً بين أيديهم.