كتب كمال خلف… يصعد قادة إسرائيل خطابهم تجاه لبنان مهددين بشن حرب شاملة وطاحنة على الجبهة الشمالية، الوضع في الشمال يشكل ازمة كبيرة مع هجرة مئات آلاف المستوطنين عن المنطقة، وممارستهم ضغطا هائلا ومتصاعدا على الحكومة الإسرائيلية للعودة الى بيوتهم، لكن طالما مقاتلي حزب الله يطلقون النار من الحدود فلن تتمكن الحكومة من إعادتهم وستكون ملزمة بتأمين مساكن بديلة لهم ودفع تعويضات تعطل الاعمال والخسائر الكبيرة التي سببتها مغادرة المنطقة.
وهذا يشكل بدوره حالة استنزاف للموارد من اقتصاد بات يعاني ضررا خطيرا بسبب الحرب المستمرة بدون افق على غزة بعد مئة وتسعة أيام من المعارك.
تعاملت إسرائيل بأنماط متعددة مع هذه المعضلة على حدود لبنان فهي أولا حاولت تسخيف اعمال المقاومة اللبنانية والتقليل من تأثيرها، وهذا ما روجته وسائل اعلام إسرائيلية وامريكية وبعض الاعلام العربي، بالتزامن مع اعمال عسكرية وغارات محدودة هدفت لتكبيد الحزب خسائر في الأرواح تمنع مقاتلي الحزب الاقتراب والتمركز عند الحدود. لكن هذا لم يجد نفعا، فاتجهت إسرائيل نحو دبلوماسية الرسائل، وجاء اكثر من مبعوث أوروبي وامريكي الى لبنان يحمل رسائل ذات اتجاهين ولغتين، الأول التهديد بالحرب الشاملة المدمرة، والثاني الاغراءات والحوافز. لم يكترث حزب الله بالتهديدات، وربط كل شيء بوقف الحرب على غزة. ومع تفاقم معضلة الشمال في الأيام الأخيرة، ارتفعت حدة الخطاب في إسرائيل منذرة بالذهاب الى الحرب كخيار وحيد، لإبعاد مقاتلي حزب الله عن الحدود الى جنوب نهر الليطاني، ووقف اعماله القتالية. وهو ما خلق تصورا في لبنان لدى بعض المراقبين ان الأمور ذاهبة نحو التدحرج الى المواجهة الشاملة.
لكن بعيدا عن خطاب الحرب والتهديدات والتهويل الذي يطلقه قادة إسرائيل وبقراءة واقعية للمعطيات، فإن الاستنتاج المنطقي يقود نحو ان إسرائيل لن تشن حربا واسعة وشاملة ومصيرية على لبنان، وتستند هذه القراءة الى الظروف الداخلية في إسرائيل، وعدم الجهوزية المطلقة لخوض مثل هكذا منازلة الان، فلن تذهب إسرائيل لحرب مصيرية امام قوة لديها اضعاف ما لدى حركة حماس في غزة الا بكامل الجهوزية، وبضوء اخضر امريكي واضح. وهذه العوامل غير متوفرة اليوم في إسرائيل.
الانقسام داخل إسرائيل بلغ مرحلة غير مسبوقة في تاريخها، سواء داخل النخبة السياسية او بينها وبين المستوى العسكري او على مستوى الشارع، والتظاهرات التي تعم المدن الإسرائيلية مطالبة باستقالة الحكومة وابرام صفقة تعيد الاسرى. ورغم حالة الانكار التي يعيشها نتنياهو وبعض من على شاكلته داخل الحكومة الإسرائيلية، الا ان الفشل في غزة وعدم تحقيق الأهداف، والاضرار الكبيرة التي لحقت بالجيش، والاقتصاد، فضلا عن الادانات الدولية للإبادة الجماعية في غزة، ووقوف إسرائيل لأول مرة في تاريخها امام محكمة العدل الدولية في جريمة ضد الإنسانية، والخلافات مع إدارة بايدن، ونأي الأوربيين بأنفسهم عن سياسات إسرائيل وحربها على غزة. هذا مشهد يقول بوضوح ان خيار فتح حرب إضافية على لبنان يمثل خيارا انتحاريا سيزيد من حجم الدمار والانهيار داخل إسرائيل. لذلك تبدو تهديدات نتنياهو بالذهاب الى الحرب في مواجهة حزب الله اقرب الى التهويل الفارغ من المضمون. واعتقد ان حزب الله يدرك ذلك تماما.
لكن ما الذي يدفع نتنياهو الى اطلاق هذه التهديدات وجعلها تبدو خيارا قد يفعل بأية لحظة. بتقديرنا اهداف نتنياهو تتلخص أولا استعراض القوة في اصعب لحظات الضعف امام العدو الأخطر في الشمال، وثانية ابتزاز الإدارة الأمريكية بالتلويح بحرب تورط الإدارة وتجبرها على خوضها جنبا الى جنب مع إسرائيل وتقاسم المخاطر والاثمان، لتخفيف ضغط الإدارة، وحملها على توجيه وزيادة الضغوط على الأطراف الأخرى في المنطقة للاستجابة للطلبات الإسرائيلية بحجة منع وتجنب الحرب.
من الواضح ان حرب الاغتيالات ضد ايران وحزب الله وحماس وضرب الأهداف في سورية ولبنان بشكل مكثف هو التعويض الذي لجأ اليه نتنياهو وقادة الحرب في إسرائيل عن حالة العجز في شن الحرب الكبرى. وعلى عكس الرائج والتهديدات ومصدرها إسرائيل وفي الحسابات العسكرية الصرفة فان حزب الله وحلفاءه في المنطقة امام فرصة تاريخية لشن الحرب المفتوحة وأم المعارك على إسرائيل وربما الحرب الأخيرة. إسرائيل الان بأكثر الأوضاع سوء في تاريخها، عسكريا واقتصاديا وسياسيا وشعبيا وعلى مستوى الراي العام العالمي. وحتى الولايات المتحدة الداعم الرئيس لإسرائيل فان خيارات الدعم العسكري الان تواجه صعوبات وليست مفتوحة ابدا، وانخراط الولايات المتحدة في الحرب بشكل كامل في الشرق الأوسط سيعني اضرارا جسيمة وذات بعد استراتيجي عالمي يهدد بفقدان أمريكا موقعها في مركزية النظام الدولي لصالح مراكز قوى تنتظر انزلاق الولايات المتحدة نحو هكذا خطأ قاتل، والدولة الامريكية العميقة تدرك ذلك وتعيه تماما.
رغم ما نقوله لا يبدو ان حزب الله او أيا من اطراف المحور يفكر الان بشن الحرب، بالوقت الذي يستعدون فيه لكل السيناريوهات مع اعتقادي انهم مقتنعون ان نتنياهو مفلس وتهديداته فارغة، وانه يستعمل اقصى مخزون المعلومات لدى الاستخبارات الإسرائيلية لتنفيذ عمليات اغتيال وضربات نوعية، تظهر إسرائيل بصورة من مازال قويا قادرا. وباعتقادي أيضا ان حزب الله وحلفاءه ما زال متمسكين باستراتيجية الانتصار عبر مراكمة النقاط والانتقال عبر المراحل والبناء على كل مرحلة ” استراتيجية دبيب النمل ” ولديهم ما يعزز لهم صوابية هذا الخيار ويكفي لفحص نجاعة هذه الاستراتيجية المقارنة بين إسرائيل عام 48 و56 و76، 82 وبين إسرائيل اليوم.
نتنياهو يكابر ويعتقد ان مواصلة الحرب والتعنت في البقاء في الميدان بذات الوتيرة يمكن ان يجنب إسرائيل دفع ثمن التحولات الكبرى في الصراع والتي كشفتها عملية السابع من أكتوبر وما تلاها من فشل. مسار التحول حتمي وجذري، وكما يقول الإنكليز”” ان اول شيء عليك فعله عندما تسقط في حفرة عميقة هو ان توقف الحفر”” نتنياهو يواصل الحفر ومع كل يوم يرتفع الثمن الذي سوف يدفعه، ليس لوحده وانما معه كل إسرائيل.