تطالع القراء العرب بين الفينة والأخرى إعلانات عن توقف صدور مجلات عربية، وأخرى ترحل بصمت دون ضجيج. فقط تموت بالسكتة القلبية ولا يكاد يشعر بها أحد، فلا تجد لها بواكيَ هنا أو هناك. مات كثير من المجلات قديما، ومن يريد معرفة ذلك فليزر مثلا موقع أرشيف المجلات العربية الإلكتروني.
فلسطينيا على سبيل المثال ماتت كل المجلات العربية الأدبية الوازنة، الكرمل، والكرمل الجديد، والشعراء، ومشارف (إميل حبيبي)، ومشارف مقدسية، وغيرها الكثير، ولم يعد في فلسطين مجلة عربية ثقافية ورقية ينتظرها المثقفون كل شهر سوى مجلة “فلسطين الشباب”، صغيرة الحجم، محدودة الانتشار، على أهمية ما تقدمه من فعل ثقافي إلا أنها تراجعت فلم تعد متوفرة في المكتبات والفنادق لتوزع مجاناً. تهتم هذه المجلة بالراهن اليومي، وتضيء عليه بأصوات كتاب جدد، لهم مزاجهم الكتابي الخاص، سواء على صعيد الأفكار والموضوعات وأسلوبهم الكتابي وطريقة التناول والعرض، ومع هذه المجلة قرينتها التي تصدر باللغة الإنجليزية “This Week In Palestine”.
وفي الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948 هناك مجلتان شهريتان عربيتان ثقافيتان الأولى مجلة “شذى الكرمل” التابعة لاتحاد كتاب الكرمل 48، ومحررها المسؤول الكاتب فتحي فوراني، وتكاد تكون مغلقة على أعضاء الاتحاد نشرا وتوزيعا، إذ لا توجد حسب علمي في نقاط بيع محددة، ومثلها مجلة “الإصلاح” الذي يحررها الكاتب مفيد صيداوي إلا أنها تسمح بنشر بعض المواد لغير كتاب الداخل الفلسطيني، بل تهتم كثيرا بالقضايا الأدبية العامة، لكنها كشذى الكرمل محدودة الانتشار، ولا توجد في نقاط بيع محددة، ولا تستطيع الحصول على نسخ من المجلتين إلا بالتواصل المباشر مع المحرر أو أحد أعضاء المجلة، لكن ما يفرح القلب أن مجلة “الإصلاح” مستمرة في الصدور منذ (52) عاماً، وأظنها أقدم مجلة عربية في مناطق الاحتلال الأولى لفلسطين عام 1948.
هذا الوضع الفلسطيني- موت المجلات الأدبية- له ما يماثله عربيا، فقد أعلن مؤخرا عن توقف مجلة الدوحة الثقافية الشهرية، هذه المجلة التي تحولت إلى الصدور إلكترونيا بصيغة ملف (PDF) منذ جائحة كورونا، بعد أن كانت تصدر ورقيا، كما توقفت قبلها بسنوات مجلة دبي الثقافية، هذه المجلة التي كان لها الأثر الكبير في تعرفي على كوكبة من الكتاب العرب ممن كان يصدر لهم كتباً، توزع مجانية مع المجلة في كل عدد، فكتبت في حينه (6/4/2016) ناعيا هذه المجلة بهذا المنشور: “للأسف لقد توقفت مجلة “دبي الثقافية” عن الصدور بعد مسيرة دامت (12) عاما، أمدتني وأمدت كثيرا من القراء والمثقفين العرب بمادة معرفية متنوعة وزاخرة، وشخصيا أمدت دبي الثقافية مكتبتي الخاصة بالعديد من الكتب التي كانت توزع مجانا مع المجلة، وعرفتني إلى روائيين كبار كواسيني الأعرج الذي قرأت له أول رواية من خلال مجلة دبي الثقافية “أصابع لوليتا” ثم رواية “مملكة الفراشة” هذه الرواية المذهلة فعلا، وكما تعرفت إلى الروائي الإماراتي “عادل خزام” وروايته “الظل الأبيض”، والروائي السوري نبيل سليمان وخاصة روايته “مدائن الأرجوان”، عدا الكتب النقدية والشعرية، وكان آخر ما قرأته من محصول دار الصدى ناشر المجلة مع العدد الأخير من المجلة كتاب “رؤيا حكيم محزون: قراءات في شعر صلاح عبد الصبور” للناقد المصري الدكتور جابر عصفور. فلمن ستتركين الساحة يا “دبي الثقافية”، ففي الخطوة العشواء يفتقد الضوءُ؟”.
إن إنهاء أي مجلة من المجلات لمسيرتها يثير في نفسي الكثير من مشاعر الإحباط، ليس “دبي الثقافية” وحدها، بل كل مجلة تنتهي مسيرتها تكون قد أطفأت العديد من المصابيح أمام القراء، فتزداد العتمة من حولنا، نحن الذين نسبح في الظلام منذ أمد بعيد.
وثمة مجلات أخرى رحلت بصمت أو أصابها الشلل لبعض الوقت كمجلة الجديد اللندنية المصابة بالسكتة منذ بضعة شهور، دون أن تجد من يعلن عن وفاتها، أو لعلها تؤجل ولادتها الشهرية لتكون فصلية، فمنذ عدد شهر فبراير المزدوج (96/97) لم تصدر. الجديد توقفت عن الصدور ورقيا منذ كورونا، ولا أظن أنها استأنفت صدورها الورقي بعد العودة سالمين من محنة الوباء العالمي.
ومثل الجديد مجلة الآداب التي ماتت ورقيا منذ سنوات، لتصدر إلكترونيا، وأظنها توقفت كليا عن الصدور، ولم يبق منها غير دار النشر. أما مجلة ميريت الثقافية فقد كانت إلكترونية في أصل نشأتها، وتصدر ورقيا بنسخ محدودة، توقفت على ما يبدو عن هذا الصدور الورقي واستمرت بالصدور الإلكتروني، على الرغم من أن رئيس تحريرها الشاعر سمير درويش أعلن ذات مرة عن رغبته في توقف إصدار المجلة، لكنه على ما يبدو تراجع، واستمر بهمة وجدية واضحتين بنشر المجلة بأعداد مكتنزة بالمعرفة وبذات الزخم والاهتمام المعهود، محافظا على مستواها الممتاز من حيث الجودة الفكرية، والتنوع، والتصميم.
ثمة مجلات غير الجديد والآداب، وكذلك صحف تحولت إلى الصدور الإلكتروني، فمن الصحف مثلا صحيفة القلم الجديد الكردية الصادرة بالعربية، والعراقية الأسترالية التي تغيب أحيانا لتعود وتعلن للقراء عن وجودها، وصحيفة الشارع المغاربي، أما صحيفة المدائن بوست فتوقفت عن الصدور بطبعتها الإلكترونية بصيغة (PDF) منذ الثامن من آذار لعام 2023 كما أعلن عن ذلك رئيس تحريرها الكاتب والأكاديمي السوداني الدكتور محمد بدوي مصطفى.
ثمة أسباب متعددة لهذا الموت أو لهذا التحول، وكنت قد ناقشته سابقا في غير كتابة، فلا داعيَ لأن أعيده مرّة أخرى، مكتفيا أيضا ببعض الأسباب المرتبطة ببعض المجلات التي سيأتي الحديث عنها فيما يأتي.
هذا الواقع حفز كثيراً من المثقفين للتفكير بإصدار مجلات أدبية ثقافية شهرية إلكترونية، ومن هذه المجلات مجلة الغرفة 19، تشرف عليها وتحررها الكاتبة اللبنانية إخلاص فرنسيس، ومجلة نقد 21، ويشرف عليها ويحررها الكاتب محمود الغيطاني، مع العلم أن المجلة حسب ما هو مثبت على الغلاف الخارجي “تصدر مؤقتا بصيغة PDF”. بمعنى أن هناك تفكيرا جديا بإصدارها ورقياً. وحديثا صدرت مجلة “دفاتر الشعر”، بصنعة الشاعر والمترجم تحسين الخطيب. ولا شكّ في أن هناك عشرات المجلات التي أصدرها ويصدرها أصحابها إلكترونياً.
ثمة مجلة أخرى إلكترونية هي مجلة الكلمة التي يرأس تحريرها الكاتب الدكتور صبري حافظ، هذه المجلة لا تصدر بملف إلكتروني “PDF” كما تصدر المجلات الأخرى السالفة الذكر، لقد كانت هذه المجلة منتظمة في صدورها الإلكتروني شهريا، وأخذت تتراجع في الصدور رويدا رويدا، لتصدر كل شهرين مرة، وفي عددها الأخير صدرت بعد ثلاثة أشهر من صدور العدد السابق. كأن المجلة تريد أن تسحب نفسها بالتدريج، على الرغم من أن موضوعاتها مهمة جدا، ولها حضور بحثي لافت بين الباحثين.
لم تكن “الكلمة” هي الوحيدة في هذا التحول الذي أعلن عن صيغته الأولى (كل شهرين) رئيس التحرير، نظرا لعدة أسباب مرتبطة بالمحرر نفسه، وشعوره بالتعب بعد أن علت سنه، ولم يعد قادرا على العمل، ولم يجد من ينوب عنه في هذه المهمة الجليلة، مجلة عود الند الثقافية الإلكترونية، بموقعها، وملفها الإلكتروني “PDF”، تحولت من مجلة شهرية إلى مجلة فصلية، وتوفر ملفها الإلكتروني للباحثين. ينتبه رئيس التحرير الدكتور عدلي الهواري إلى هذا المأزق التي تقع فيه المجلات العربية، فناقش المسألة في افتتاحية العدد (28) من المجلة (ربيع، 2023)، متوقفا عند ما أعلنت عنه مجلة “بدايات” اللبنانية التي يرأس تحريرها الكاتب والمترجم فواز طرابلسي. ثمة أسباب تدفع رؤساء التحرير لمثل هذا القرار، وفي حالة “بدايات” كانت المشكلة في تراجع “التمويل الأجنبي” وعدم مقدرة المجلة على الصدور بجهود ذاتية، فعلق رئيس التحرير إصدار المجلة، ولم يتحول إلى الإصدار الإلكتروني في الموقع أو بصيغة “PDF”، علما أن التمويل الأجنبي تقلص ولم يجفّ نهائياً، فبإمكانه أن يصدرها إلكترونيا، لكنه ربما أراد أن يمارس حردا ثقافيا من نوع “أقتل ابني لأهمّ جارتي”.
باعتقادي الشخصي أن المجلات الإلكترونية مهمة، وتعوض النقص، إضافة إلى ما قاله الدكتور عدلي الهواري: “وجود منابر ثقافية متعددة أمر يستحق الترحيب به، ولكن اختيار المنبر الثقافي أن يكون ورقيا في العصر الرقمي أمر لا يبدو أنه يتحلى بالحكمة”، لاسيما أن القراء اليوم تحولوا إلى القراءة الإلكترونية، كتبا ومجلات وصحفاً، وانخفض الإقبال بشكل كبير على اقتناء المطبوعات الدورية والكتب الورقية، هذا ما ألاحظه في نفسي؛ أنا المهووس باقتناء الكتب والمجلات وقراءتها، لم أعد مستعدا لشراء مجلة ورقية تصدر إلكترونيا. ومثلي آلاف من الكتاب، كما يلاحظه أصحاب المكتبات؛ إذ لم تعد تبيع نسخا من المجلات كما هو في السابق.
كما ساهمت مجموعات قراءة الكتب ومناقشتها من تعزيز حضور النسخة الإلكترونية من الكتاب، لأنها أصبحت تعتمد على اللقاءات الإلكترونية عبر التطبيقات الحديثة، وخاصة زووم، ومن أجل إنجاح مثل هذه الحلقات من النقاش يوفر المنظمون الكتب المراد مناقشتها إلكترونيا بصيغة “PDF”، ويصبح الأمر ضروريا جدا إذا ما كان المناقشون من دول متعددة يجتمعون عبر تطبيق افتراضي. كما تفعل ندوة اليوم السابع المقدسية منذ تحولها إلى اللقاءات الإلكترونية بعد مصيبة جائحة كورونا.
إن المطبوعات الإلكترونية لا شك في أنها نعمة، يستحق أصحابها الشكر والامتنان، مشيدا في هذا المقام بمجلة الليبي التي يرأس تحريرها الأكاديمي الليبي الدكتور الصدّيق بودوارة المغربي، إذ تصدر المجلة ورقيا وإلكترونيا، بصيغة ملف (PDF) متاح للقراء جميعا، مع أن المجلة تتعثر في الصدور أحيانا تبعا لظروف خاصة، لكنها تصرّ على الصدور، ولم تنقطع أيام الجائحة، بل بقيت تصدر إلكترونيا في حينه، لتتابع الصدور الورقي بعد ذلك.
بطبيعة الحال لم تكن “الليبي” وحدها في هذا التزاوج بين الورقي والإلكتروني، وإنما معها مجلات أخرى متعددة. إن المحررين بالفعل يستحقون الإشادة، خاصة أنهم يبذلون قصارى جهودهم في التحرير والتصميم وتعميم أعداد تلك المجلات في وسائل متعددة، إما برفعها على منصات تحميل الكتب لتكون متاحة مجاناً، أو بتوفير روابط إلكترونية للتحميل والنشر على صفحات تلك المجلات أو محرريها، أو عندما يتكرمون على الكتاب والقراء والأصدقاء بإرسالها عبر الواتس أب أو رسائل البريد الإلكتروني أو رسائل الفيسبوك. كل هذه الوسائل تجعل من هذه المجلات قريبة للقارئ، وتعزز فيه نزعة القراءة الجادة، أو تدفعه ليمارس الكتابة، ويكون أكثر جرأة في النشر، وتطوير ذاته، إن وجد رئيس تحرير جيد؛ يقوم برعايته وتوجيهه.
وليس فقط رؤساء تحرير المجلات الإلكترونية، بل لا بد من تقديم الشكر والامتنان لكل الكتاب والناشرين الذين يتيحون كتبهم بصيغة إلكترونية للقراء، ولا يجعلون تلك الكتب خاضعة لبورصة الأسعار، وتحكم المنطق الرأسمالي بالمعرفة البشرية، فيتعاملون معها تعامل التجار بمنطق السوق، فتسلّع المعرفة، وتنتهك قدسيتها في هذا الفعل، وعليّ هنا أن أشيد بجهود مؤسسة هنداوي التي تتيح كل كتبها للتحميل المجاني عبر موقعها الإلكتروني. كما يجب الاعتراف بفضل كل المكتبات الإلكترونية التي توفر مكتبات ضخمة للتحميل المجاني، معززة بذلك عولمة الأفكار وشيوعها وعدم احتكارها.
على هدي من هذا التطور أخذت أفكر جديا أن أصدر كتبي القادمة بطبعات إلكترونية، وتوفير عدد محدد ورقيا من أجل حفلات التوقيع والإشهار وإيداع نسخ في المكتبات العامة ومكتبات الجامعات، وقد بدأت بذلك بالفعل مع كتابي الجديد “الكتابة في الوجه والمواجهة”، فقد جعلته متاحاً للتحميل والقراءة في مكتبة نور الإلكترونية، كما قمت قبل ذلك بتوزيع الملف الإلكتروني لكتاب “استعادة غسان كنفاني” على الكتاب والمثقفين في البريد الإلكتروني بمناسبة مرور خمسين عاما على استشهاد غسان كنفاني، وكان الكتاب قد صدر ورقيا قبل عام من ذلك.
إن فكرة موت المجلة ورقيا وإعادة بعثها إلكترونيا لهو عمل إنساني وثقافي مهمّ، يحافظ على ديمومة المجلة واستمرار إشعاعها الفكري والحضاري في ظل هذا التقدم التكنولوجي، أما موتها وسكونها وتحولها إلى أرشيف للباحثين فهو قتل للمعرفة وإطفاء لسراج الأفكار المتدفق من بين أقلام الكتاب وعقولهم، فلا شيء أبشع من قتل المعرفة بهذه الطريقة. إن ذلك أشبه بما قاله الشاعر العربي القديم عن المصيبة الحقيقية الكامنة في موت خلق كثير بموت شخص حر كريم واحد، وبالاعتذار أولا لصاحب البيتين أختم بحكمته تلك مع قليل من التعديل:
لعمرك ما الرزيّة فقْد مال—ولا شاةٌ تموت ولا بعيرُ
ولكنّ الرزية موتُ “سِفْرٍ”—يموت بموته “فكرٌ” كثيرُ