ان المثقف في المقام الأول تشغله قضية الحقوق والحريات، ثم أنه يلتزم بالدفاع عن القيم المجتمعية، أو الكونية، كما قال عنه الكاتب علي حرب، ويتمثل هذا في كتاباته كمواقف تستحق منه التضحية والثبات عليها، وقد يستطيع توجيه الرأي العام لقضايا أمته وشعبه، وهذه صفة المثقف ومهمته، بل هذه مشروعيته ومسؤوليته.
والمثقف العراقي عاش عقود من المفاهيم والثقافات المستبدة، التي لا تعير أي قيمة اعتبارية للإنسان، سواء كانت فكرية، أو غيرها، لا سيما في مرحلة الدكتاتورية، حيث تم ارتباط كل الاشياء في الحياة العراقية بمؤسسة القائد الأوحد، وأصبحت ثقافة الإرهاب والتسلط والتعسف هي الغالبة، وكان المثقف يخاف الكتابة، حتى وهو في الغرف المغلقة، وقدم الشعب خلال هذا قوافل من الشهداء ومئات من الانتفاضات، وحين اصبحت ساحة الفردوس انطلاقة للتغيير، سادت فوضى التخلص من هذا العهد وأقول فوضى، بسبب انفتاح الأبواب على مصاريعها، ولكل قوى الشعب الايجابية والسلبية، ما أدى إلى تصادم هذه القوى.
لا بدَّ أن يحدث هذا التصادم الانفعالي، وبدأ الشعب العراقي يقدم قوافل اضافية من الشهداء، الذين سقطوا بسبب الاحتقان الطائفي، أو بسبب الإرهاب، والمجاميع التكفيرية، وعصابات السطو والسرقة، وتعرض المجتمع لهزة التغيير، ولا بد من فترة تُستعاد فيها يقظة الشعب ووعى المثقف، وبدأت مفاهيم الثقافة الديمقراطية، وقبول الآخر تسود، خاصة في الأوساط الثقافية والإعلامية، إضافة لثقافة الدستور الدائم وحمايته والانتخابات، ولكن كان ايقاع أداء أجهزة الدولة والبرلمان وأداء القوى الفاعلة، التي حكمت البلاد من خلال صناديق الاقتراع بطيئا جدا، لأسباب منها التركة الثقيلة من النظام السابق، ومنها المحاصصة، التي بُني على أساسها اداء الدولة، اعتقادا بأنها تمتص الاحتقان الطائفي والقومي، وهي لا شك امتصت القليل منه.
ولكن الأداء انعكس سلبا على بناء المؤسسات والبنية التحتية للدولة، وكانت الامتيازات للسلطة المنتخبة، قد ساهمت في سلبيات الأداء الحكومي، لأنَّ هناك إحساسا بالغبن لدى موظفي الدولة الآخرين وأفراد الشعب، فسادت نوبة وبائية من الفساد الإداري والمالي، وعدم احترام المال العام، وهذا بدوره انعكس بالسلب على الأداء الحكومي أيضا.
ومع الأسف لم تنتبه القوى السياسية الفاعلة، لهذه الأخطار، بل راحت تساوم بعضها على الامتيازات، وتركت البناء الأساسي للدولة، وحتى نكون منصفين، لا ننفي أن هناك بناءً ينهض، وهناك دولة تنهض بهمة خلال سنوات ما بعد سقوط الصنم، (وان نجاح هذه الدولة يكمن في إعادة تنظيم صفوف مسؤولياتها الإدارية والتنظيمية، من خلال تأمين جدية الفاعليات الكفوءة مهنيا وإجرائيا وإعادة رفع الشعار القديم «الموظف المناسب في المكان المناسب»)، ونكرر الأسف بسبب بقاء المزايدات والحزبيات، والمحاصصات السائدة.
وهذا زاد من احتقان آخر غير الاحتقان الطائفي، وهو الاحتقان الاجتماعي بشعور الغالبية الاجتماعية بالغبن، نتيجة العوز والفقر ونقص الخدمات، والتي كانت تأمل من التغيير بعد 9/4/2003 أن تكون في حال أفضل، وبقي الأمر على حاله وساء أكثر، وهذا الاحتقان حذرنا منه نحن المثقفين المراقبين للساحة الوطنية بكتاباتنا وعلى صفحات كبرى مطبوعاتنا اليومية وغيرها، حتى أصبح هذا الاحتقان مطالبات، ثم تظاهرات وتكررت هذه التظاهرات، لان المواطن ملّ الكثير من وعود عقدين بعد التغيير.
ولا ننسى أن هناك أعداءً متربصين بالعملية السياسية والديمقراطية في العراق.. وهم بكل تأكيد يحاولون توجيه مطالب الشعب وتحريفها عن مسارها الديمقراطي المشروع، وإلا فإنها مطالب ليست مضادة لتوجهات الدولة العراقية الجديدة صاحبة المشروع الديمقراطي الضامن لحقوق الجميع، وعلى الدولة في المقابل إدارة هذه الأزمة بروح التعاطي، وتوظيف الاختلافات، وتعزيز المشتركات، والتحول من حالة الصراع والاحتقان إلى حالة الاتفاق، وخلق انسجام بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
وجعل الدالة الوطنية والوطن هي الدالة العليا، ليحس المواطن بالأمان.. وكفى مشاحنات ومزايدات بين القوى السياسية بإعلان سلم وظيفي عادل، لا يغري المسؤول بالتمسك بالمنصب، ويكون اختيار الكفاءات قانونا ثابتا ووفق الدستور، الذي يطالب بالعدالة… ونحن نلمس بان كل القوى السياسية الفاعلة تطالب بتطبيق الدستور وبناء الدولة المدنية، وعلى هذه القوى ترجمة مطالباتها على أرض الواقع، بما يخدم المواطن والوطن وتطبيق الدستور، وسيبقى المثقف الفاعل، يطالب بحقوقه وفق خطوط الديمقراطية المنسجمة ومواد الدستور.