كتب علي لفتة سعيد… يكثر الحديث لدى رواد السوشيل ميديا وحتى الكتابات النقديَّة والفكريَّة من أن هناك هبوطا في الوعي وأن الكتابات والصور والمشاهدات تزداد لدى المنشورات الهابطة.
وهو أمر حقيقي لا يمكن نكرانه أو حتى مناقشته، بل إن الكثير من الأخبار السيّئة وغير المحمودة اجتماعيًا وثقافيًا وفكريا هي التي تنتشر بسرعة النار في الهشيم كما يقال، وأن الكثير من منشئي هذه المواقع أصبحوا أعلاما ومشهورين بفضل ما يعرضونه من مقاطع فيديوية ومنشورات لا تتلاءم مع المستوى الثقافي والإرث التاريخي والتقاليد الاجتماعية للمجتمع
رغم أن الأمر غير محصورٍ بالواقع العراقي، بل هو كما أعتقد موضوع يسود المجتمعات العربية ومن مثلها في العالم الذي لم يعد يقال عنه عالم ثالث، إذ نرى الكثير من المنشورات التي تصل إلى حدّ الابتذال والرذيلة والتهميش لكلّ ما هو حضاري وثقافي، وقد سادت هذه المواقع لتصبح هي الأكثر مشاهدة وتدرّ على أصحابها الكثير من الأموال التي تصل إلى تغيير الحياة ونمطها، وكل هذا ليس لأنَّ صاحب المنشور أو الموقع أو الفيديو يقدّم مادةً لها أثر في الواقع الثقافي، بل لما يقدّمه من مستوىً هابطٍ يزيد به عدد المشاهدين الذي يتابعونه بشكلٍ قد يصل إلى حدِّ الانتظار والشغف والمتابعة، خاصة تلك المنشورات التي تقدم ألفاظًا غير مؤدّبةٍ يرتضيها المنشئ على نفسه وعلى من معه، لتصل إلى حدِّ الشتيمة. يضاف إلى هذا أنّها تتعارض مع ما تقدّمه المواقع التي يقال إنّها رصينة من نصوصٍ فكريّةٍ وآراء سياسيّة أو دينيّة، ومن ثمَّ المعارضة والمخالفة مع ما هو سائد ومعروف بهدف المخالفة والحصول على مشاهداتٍ أو تعليقاتٍ أكثر والتي ربما لو اخترنا أقلّها صدمةً تلك التي تطلب من المشاهدين أو القرّاء أو الأصدقاء التعليق عن (أكلة اليوم) أو (ماذا تسمّين حبيبك لو كان حداداً) على سبيل المثال ولا تنتهي إلى مقاطع تقدّمها امرأة مع ابنتها لنوع من النكات التي يخجل الرجل أن يقولها في مكانٍ عام.
إنَّ مثل هذه المنشورات أو الفيديوهات كثير لا سبيل لحضرها ولكن السؤال: لماذا يسود الهبوط في الأفكار في هذه المواقع التي أصبحت لها تأثير على الذائقة الفكريّة والثقافيّة للمجتمع وخاصة الأطفال؟، لماذا يلجأ المشاهد أو المطلّع الذي ينتقد هذه المواقع لمتابعتها ويزيد من عدد المشاهدات، ومن ثم المساهمة ليس في زيادة رصيد المشاهدين والمال، بل لأنّ الذي يتابع ويرى أسماءً تتابع فهو سيكون واقعًا تحت تأثير هذه المتابعات لأسماءٍ معروفة؟.
إنَّ الإجابة التي نراها في العديد من الأسباب لا يمكن حصرها، لكن بالموجز أنّها تتحدّد بعددٍ من النقاط التي يمكن لها أن تجمع أغلب التحليلات.
أوّلها: إنّها ردّة فعلٍ لواقع يشعر به المتابع أنّه يعيش في كبتٍ قد يصل إلى حدِّ المزمن أمام المتغيّرات التي شهدها الواقع العراقي والعربي والذي ساد فيه تحشيد الخدعة الأخلاقيَّة أمام سيل الفساد.
ثانيها: إنّها تأتي تعويضًا للنقص الحاصل في الوعي الثقافي الذي تسبّبت به عملية الانفلات في فهم الحرية ومفهومها الفكري.
ثالثها: إنّها تأتي بسبب ضعف الرقابة الاجتماعيّة والأسريَّة التي تشجّع منتجي هكذا مواقع بعد أن رأت فيه أي الأسرة التغيير المالي السهل نتيجة المتابعات.
رابعها: إنّها تأتي بسبب ضعف التقابل الفكري والثقافي للأسرة ككل، لأن الجميع وقع تحت هيمنة هذه المواقع ومن ثمَّ عدم فرز من هو المسؤول عن كيفيّة زيادة الوعي لمواقع تؤيد الاستسهال وتستسيغه بل هو جزءٌ من تكوينها فتتبيّن ضحالة التفكير والوعي الثقافي.
خامسها: إنّها مواقع لا تقدّم مواضيع تحتاج إلى فكرٍ ووعي وتحليل لا يريدها المشاهد الذي ملَّ من كلِّ البرامج التي تعرضها الفضائيات وسط واقعٍ مريرٍ وكاذبٍ وفاسدٍ وكاتمٍ عليه، سواء في الناحية السياسيّة أو الدينيّة.
سادسها: إنّها مواد تقدم الفرجة المجانيّة وسط غياب الفعاليات الثقافيّة الأخرى كالسينما والمسرح الكوميدي الهادف.
سابعها: إنّها تأتي بسبب كونها تحاول تقديم ما هو ممنوع في المواقع الأخرى كالصحف والفضائيات وحتى والبرامج الإذاعية والوكالات الصحفية.
ثامنها: إنّها تدغدغ العاطفة مع غياب العقل بسبب تفاقم لكلّ ما هو صعب في الحياة، وقد وصل إلى حدّ اليأس في وجود المعالجات.
تاسعها: إنّها مدفوعة الثمن في الكثير من الأحيان ليسود الحياة كلّ ما هو هابط والتأثير على البناء الفكري والثقافي لهذا المجتمع أو ذاك وخاصة المجتمعات العربيّة. عاشرها: إنّها تعطي صورةً واضحةً عن الوعي الذي وصلت إليه المجتمعات وسط سياسيات غير صالحة للقرن الواحد والعشرين مع وجود أهداف وشعارات لا تصلح لهذا الزمن والتي تم سحبها من الماضي. وبالتأكيد هناك الكثير من النقاط والأسباب الأخرى التي قد تدخل في خانةٍ ما تمّ ذكره، وقد تضاف لها عوامل التعرية الفكريّة التي تمارسها الضغوطات السياسيّة العالميّة كالحروب واستغلالها سياسيًا ودينيًا وغيرها. وهروب العقل البسيط من متابعتها وسط الحاجة المادية لحياةٍ التي لا تنفع معها الثقافة كما يردد البعض مع انتقادها لما تقدّمه البرامج الثقافيّة والسياسيّة وحتى الدينية من مواضع لا تمسّ البساطة الاجتماعيّة.