دولة القوانين
أ.د عامر حسن فياض تفنن العقل السياسي الانساني المعاصر في صياغة تسميات متعددة للدولة، منها الدولة الحارسة ودولة المؤسسات ودولة الرفاهية والدولة الخادمة والدولة العادلة… إلخ.
بيد أن هذه المسميات جميعاً لم تخرج عن تسمية أطلقها افلاطون وما زالت حية ومطلوبة، ألا وهي دولة القوانين طالما بقيت السلطة بحد ذاتها مفسدة، والسلطة المطلقة تفسد بصورة مطلقة… فما هي دولة القوانين؟ لقد انقسمت أفكار افلاطون وإجاباته عن الاسئلة المتعلقة بظاهرة السلطة السياسية إلى مجموعتين، ثبتت الأولى منهما على حالها، ولم يطرأ عليها التغيير، كما هو الأمر مع رأيه بشأن الأصل الانساني الإرادي للسلطة السياسية وشرعيتها، بينما تغيرت أفكاره الاخرى وطرأت عليها تعديلات كانت جزئية احياناً وكلية احياناً اخرى. فبعد أن قدم أفلاطون في «الجمهورية» تصوره لنظام المدينة الفاضلة التي يحكمها الفيلسوف العادل الخاضع لقانون العقل، وجد أن هذا النظام الذي عدّه أكثر الأنظمة مثالية وفضيلة متعذر التحقيق في الحياة الواقعية، فوضعه جانباً في كتابيه (السياسي) ثم (القوانين)، وأدرجه ضمن النظم المثالية غير القابلة للتحقق في العالم الانساني، وتوجه نحو العالم الواقعي للبحث فيه عن الانظمة الواقعية القابلة للتطبيق عملياً وسبل تحسينها وتقليل سلبياتها وشرورها، ملاحظا في هذا الخصوص أن القوانين هي الأقدر على تنظيم حياة المجتمع، وإخضاع الأفراد ومنع تعسف الجكام وطغيانهم واستبدادهم منسجماً في توجهه القانوني الجديد هذا مع التراث التشريعي الدستوري للمجتمع الإغريقي وتقاليده. ولكن افلاطون لم يتخلَ، على الرغم من ذلك عن إيمانه بالافضلية المطلقة لنظام حكم الفيلسوف العادل،
إذ ليس ثمة في اعتقاده من نظام أو قانون أو تشريع انساني يمكن ان يوازي المعرفة الكاملة (الفلسفة) أو يماثلها في ما ينتج عنها من خير وعدل وفضيلة، لكنه نظام متعذر التطبيق وليس من سبيل لتعويضه في حياتنا الانسانية إلا بأقرب النظم إليه، وأقدرها على تجسيد خصائصه الايجابية وهو نظام السلطة الخاضعة للقانون من حيث إن القانون هو أقرب منتجات العقل إلى الفلسفة لأنه «حكم العقل المجرد عن الهوى»، وهذا اقرب ما عكسته آراؤه الجديدة في كتابيه «السياسي/ رجل الدولة» و»القوانين» اللذين طور فيهما أفكار كتابه «الجمهورية» بشأن الدولة المثالية الفاضلة ونظامها القائم على حكم الفلاسفة أو تفلسف الحكام، محافظاً على المستوى النظري على اعتقاده بأفضلية حكم الفلاسفة ومثاليته، ومقترباً على المستوى العملي من واقعية الحياة الإنسانية، التي بحث فيها عما هو قابل للتطبيق، ليس للكشف عن افضل النظم السياسية العملية، بل عن أقل النظم السياسية العملية سوءا. وكان كتاب مرحلة النضج والتطور الأولى «السياسي»، تجسيداً لهذه المثالية- الواقعية وتأسيساً لفكرها السياسي، حيث قسم فيه افلاطون الدول وأنظمة الحكم فيها إلى نوعين أساسيين: – دول مثالية يصعب تحقيقها أو وجودها في الواقع الإنساني. – دولة زمنية واقعية يمكن تحقيقها ووجودها في الواقع الانساني. وبذلك أكد ولاءه الفكري لنظام حكم الفلاسفة بعد أن صاغه في صورة مثالية – خيالية تجعله غير قابل للتطبيق في الحياة الانسانية، بينما منح ولاءه العملي الواقعي لأنظمة الحكم الانسانية، باحثاً عن اقربها إلى حكم الفلاسفة وأكثرها شبها به.
لقد رفض أفلاطون في «الجمهورية» واستبعد كل أشكال السلطة السياسية وأنواع انظمة الحكم، مقدماً نظام سلطة الفلاسفة الحكماء كنموذج مختلف عنها تماما ومتعارض معها كليا، لكنه عاد في «السياسي»، ليطرح تساؤلاً جديداً يقارب فيه بين حكم الفرد وحكم القوانين، ويتساءل ايهما هو الافضل والاكثر خيراً؟ وتأتي إجابته عن هذا التساؤل مشروطة، فإذا كان «الفيلسوف» هو الحاكم فحكمه الافضل والاكثر خيراً، لأنه لايحتاج إلى القوانين للتمييز بين الخطأ والصواب، الخير والشر، طالما أن عقله الكامل قادر على ذلك ومؤهل له فهو الطبيب، الذي يشفي المريض سواء عرف المريض ذلك أم لم يعرفه أراده أم لم يرده، ولكن هذا النظام غير موجود في الواقع وإن وجد ففي العقل وتأملاته فحسب لأنه دولة مثالية- خيالية لا يتيسر وجودها في حياة الانسان، فهي دولة كاملة ذات معرفة كاملة تحررها معرفتها من قيود الحاجة إلى القانون، لذلك فهي خارج وفوق كل مخطط انساني واقعي، أما افضل نظام بديل فهو النظام القائم على حكم القوانين لانه الاقرب إلى نظام حكم الفلاسفة من حيث قدرته النسبية على التمييز بين الخطأ والصواب مما يجعله افضل انواع الانظمة الزمنية الواقعية.
لتصلك آخر الأخبار تابعنا على قناتنا في موقع التلغرام: النعيم نيوز
و لمتابعتنا على موقع فيسبوك يرجى الضغط أيضا على الرابط التالي: النعيم نيوز
كما يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية
و لا تنسى أيضا الاشتراك في قناتنا على موقع الانستغرام: النعيم نيوز