أخبارثقافية
أخر الأخبار

مكتبة إيكو.. ذاكرة الإنسانيَّة

“لو عرفنا كل شيء في العالم لأصبنا بالجنون”. أمبرتو إيكو

كان الكاتب الإيطالي، مؤلف “اسم الوردة” و “الأثر المفتوح”.. أمبرتو إيكو (1932- 2016) شغوفًا بالفلسفة والأدب وبالخيال قدر شغفه بالواقع والحقيقة. كان فيلسوفا ولغويا ومبدعا وناقدا عاش وسكن في الكتب، وأورث عائلته مكتبة ضخمة احتوت أكثر من 50 ألف مجلّد تتوزع بين كتب قديمة وأخرى حديثة (كثير منها يحمل إهداءات المؤلّفين وملاحظات بخط إيكو) ووثائق ومراسلات ومواد رقميّة.. أهدتها العائلة إلى مكتبة بريدنس Braidense (ميلانو) وجامعة بولونيا Bologne.

كان إيكو لا يحب الهاتف المحمول والكمبيوتر.. هذا ما أخبر به ابنه ستيفانو في الفيلم الوثائقي الذي أعده دافيد فيراريو Davide Ferrario: إمبرتو إيكو، المكتبة العالمية، Umberto Eco – La Bibliothèque Du Monde (2022. 80 دقيقة)، والذي وثّق فيه صورا أرشيفية للكاتب ومقابلات مع العديد من أصدقائه، وكان بمثابة نداء قوي لممارسة القراءة.

تمثل هذه المكتبة صورة عن فقه لغة (فيلولوجيا) إيكو المؤلف، la philologie d’auteur، ومن خلالها يمكن أن نكتشف عقله فيلسوفا وناقدا وروائيا.. ففضلا عن أمهات الكتب، والأعمال الفلسفيّة والأدبيّة احتوت مكتبة إيكو كتبا ودراسات وصفها صديقه الفيلسوف ريكاردو فيدريجا Riccardo Fedriga بأنها “غريبة الأطوار”.. عن السّحر والكيمياء والتصوف وعالم الحيوانات.

إن ذخيرة إيكو من الكتب، مرآة عقله، وإنْ بدت “غير منسجمة” فإنها “تقول كل ما نحتاج إلى معرفته عن عوالم بأكملها”. إنها، مثلما وصفها هو نفسُه، ذاكرة الإنسانية، الذاكرة التي لا مستقبل للإنسانية دونها.

وللذاكرة، كما يقول إيكو، وظيفتان أساسيتان، هما: المحافظة على المحتوى وغربلته. ليس المهم، في رأي إيكو، أن تكون لنا ذاكرة قوية تتسع لكل شيء، بل المهمّ أن تكون لنا قدرة على الفرز والغربلة حتّى لا نصاب بالجنون.

إن محتوى الانترنت اليوم هائلٌ لا نقدر حتّى على تخيّله، ولكنه يظل مثل شخصية فونيس Funes في قصّة الأرجنتيني بورخيس J. L. Borges: فونيس الذي لا ينسى Funes el memorioso 1942.

لقد صار فونيس، بعد أن سقط من فوق حصان، يتمتع بذاكرة خارقة، فلا ينسى أيّ شيء. ولكنه لم يكن قادرا على فرز ذكرياته، مما جعله أحمق. يقول إيكو: “إذا عرفنا كل شيء في العالم، فسوف نصاب بالجنون”.

اليوم، بفضل تطور وسائل الكتابة وأدوات التسجيل والحفظ صرنا نسجل كلّ شيء، ولم نعد نشعر بالحاجة إلى التذكر. يقول إيكو: في الماضي كنت أذهب إلى المكتبة وأستعير ثلاثة كتب وأتعلّم منها شيئا ما.. أما اليوم فبنقرة واحدة يمكنك الوصول إلى آلاف العناوين. ولكن ما جدوى ذلك؟ ما جدوى أن تكون لك بيبلوغرافيا من 10 آلاف كتاب؟

ولذلك فإن البشريّة، في رأيه، تواجه اليوم تحديا جديدا: إننا في حاجة إلى التخلص من أكبر قدر ممكن من المعلومات.

مثلما كان عيب فونيس الإفراط في التذكر، فإن البشرية تعاني اليوم تضخما في الذاكرة بسبب الأدوات الجديدة المتاحة للتسجيل وحفظ كلّ شيء، في حين أنّ المطلوب هو المقارنة والغربلة والفرز. إن الإفراط في التذكر يجعلنا أمام ما يشبه كومة القمامة.. ذكريات تتكدس، ومعلومات (كثير منها خاطئ ومضلّل) يتراكم بعضُها فوق بعض دون قدرة على التفكير والنقد . ولذلك فإنه من الوهم، فعلا، أن نعتبر الحفظ والتسجيل دليل ذكاء وعبقرية. إن اكتمال المعرفة مانع للتفكير.

ذلك أحد أهم الدروس المستخلصة من “مكتبة إيكو” التي أثار توريثُها وأرشفتها جدلا قانونيا، في إيطاليا، واسعا.

رضا الأبيض

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى