ثقافيةمقالات
أخر الأخبار

سلطة الإعلام خلال الحروب ..!

في اللحظة التي كانت الأبحاث والاستطلاعات تشير إلى أفول وسائل الإعلام، جاءت الحرب في قطاع غزة لتعيدنا إلى نقطة المراجعة والتفكير مجدداً بالكيفية التي تعمل فيها وسائل الإعلام، ومدى قدرتها على منافسة مواقع التواصل الاجتماعي، القوة الطاغية في مجال التأثير على الرأي العام خلال السنوات الأخيرة.

كل المقاربات التي ظهرت خلال السنوات الأخيرة تنطلق من مبدأ أن الإعلام يفقد تأثيره ولم يعد قادراً على تشكيل الرأي العام، لذلك تجد الأبحاث تسعى لتفسير حالة الانسحاب الجماهيري من متابعة وسائل الإعلام إلى استخدام مواقع التواصل ليس باعتبارها وسيلة تواصل شعبية فحسب، إنما كمصدر للأخبار ومتابعة الأحداث الجارية، بل وإعادة رواية الأحداث بأسلوب شعبي يتناسب مع رغبة الجمهور وطموحاته، وهذه الفكرة الاخيرة لم تكن موجودة سابقاً، فقد كانت وسائل الإعلام التقليدية هي التي تجر عربة قطار الرأي العام وتذهب به إلى حيث تشاء.

قيل أن الصحيفة قد اختفت وهذا صحيح، والمذياع حجز مقعده في متاحف التاريخ، بينما ينتظر التلفزيون دوره لتكتمل التعزية بتأبين وسائل الإعلام التقليدية، لكن هذا النوع من التفكير يفتقد لبعد النظر، ويرى الجانب المادي التقني من وسائل الإعلام، ويعممه على كل التجربة الإعلامية، بينما نحتاج إلى توسيع التحليل ليشمل أصل فكرة “عمل وسائل الإعلام”، وإذا أردنا تعريفها يمكن عدها بأنها حلقة الوصل بين أجزاء المجتمع، أي بين مؤسسات الدولة (الرسمية وغير الرسمية) والمجتمع وبالاتجاه المعاكس بين المجتمع ومؤسسات الدولة.

دورها الأساس رصد الواقع وشرحه للمتلقي، ومحاولة تصحيح مسار رواية الأحداث، بحيث لا تسمح بسيادة رواية واحدة، إنما تفرض تعدد الروايات لتخلق بذلك موازنة بين وجهات النظر المختلفة.

وبغض النظر إن كانت وسائل الإعلام رسمية أو غير رسمية منحازة أو غير منحازة، فإن وجودها ضروري ليس لتحقيق الحياد فحسب (لأن الحياد غير ممكن)، بل لمنع الطغيان، سياسياً كان أو اجتماعياً، أو غير ذلك، المهم أن لا تكون هناك رواية واحدة للأحداث، سواء على مستوى الإعلام المحلي أو الدولي.

الفكرة التي أريد توصيلها من هذا الشرح أن عملية تأسيس قناة إعلامية واحدة لا تكفي، كما هو الحال في مجال السياسة، حزب واحد لا يكفي، يجب أن تكون التعددية حاضرة، وكما في المجال الدولي، لا يمكن القبول بسيطرة دولة واحدة على جميع الدول من خلال جيشها وأساطيلها لا يستقيم العالم بدون تعددية إعلامية.

وكما هو الحال في توازن الرعب بين الجيوش العالمية، يمكن القول أن المؤسسات الإعلامية قادرة على خلق حالة من التوازن لإكمال الأجزاء الناقصة في صورة الأحداث، ولا يمكن لمواقع التواصل تحقيق التوازن المنشود، إنما وظيفتها التصفيق لهذا الطرف أو ذاك.

نستنتج من ذلك أن وسائل الإعلام التقليدية كمؤسسات وليست كمذياع أو جريدة أو جهاز تلفاز، هي وحدها القادرة على تنظيم نفسها، وجلب أفضل الأشخاص القادرين على صناعة المحتوى الإعلامي، وخلق حالة التوازن بين المحتوى الإعلامي والرسائل الاتصالية عبر منطقة معينة أو على مستوى العالم.

لا يهم إن غابت الجريدة كورقة يمكن سماع صوت تقليب أوراقها، ولا المذياع كجهاز إلكتروني يبث الصوت، ولا التلفزيون كشاشة، المهم هو المحتوى ومن يستطيع صناعة هذا المحتوى، أما كيف يصل إلى الجمهور، فلا يهم، إن كان عبر فيس بوك أو أكس، أو يوتيوب وغيرها من المواقع.

الكثير منا لم يفتح التلفزيون التقليدي كجهاز، لكنه ما يزال يشاهد الأحداث عن طريق المؤسسات الإعلامية الكبيرة مثل بي بي سي البريطانية، أو سي أن أن الأميركية، أو فرانس24 الفرنسية وغيرها، بينما تنتشر في منطقتنا العربية مؤسسات إعلامية تناطح تلك التي تملكها الدول الكبرى، كما هو الحال مع الجزيرة القطرية، وسكاي نيوز الإماراتية، والعربية السعودية.

الحرب الإسرائيلية المستمرة ضد المواطنين الفلسطينيين في قطاع غزة تجبرنا على إعادة النظر في السلطة التي سحبناها من مؤسسات الإعلام التقليدية ومنحناها لمواقع التواصل الاجتماعي بحجة أننا لم نعد نشاهد الأخبار والآراء عبر الجريدة والمذياع والتلفاز، لكن الحرب ضد الفلسطينيين أعادت للواجهة القوة الهائلة لوسائل الإعلام ومدى قدرتها على قيادة الرأي في مواقع التواصل، وأثبتت أن نسبة كبيرة من هذا الرأي مبني بشكل أو بآخر بواسطة أفكار أنتجت داخل غرف الأخبار.

مواقع التواصل الاجتماعي التي يعتبرها البعض قوة طاغية هي الصدى لما ينشر في مؤسسات الإعلام التقليدية وهذه الأخيرة تعد المطبخ الرئيسي للأخبار والمفسر الأبرز لها، وهي الأكثر تنظيماً وتخطيطاً لخلق تأثير قصير أو طويل الأجل، ما يجعلها سلطة في وقت السلم، وسلطة هائلة في وقت الحرب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى