خطبتي جمعة في جامع الرحمن بإمامة الشيخ عادل الساعدي
إقيمت خطبتي صلاة الجمعة المباركة، في جامع الرحمن بإمامة الشيخ عادل الساعدي.
الخطبة الاولى :
عنوان الخطبة : علاقة الدين بالاخلاق
قال تبارك وتعالى (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) ونحن نعيش في رحاب ولادة منقذ البشرية ومُخرجها من الظلمات إلى النور، النبي المختار (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وددنا أن نقف قليلاً على أهم صفة اشتهر بها خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والتي استطاع من خلالها انتشال ذلك المجتمع الجاهلي الذي وصفته الزهراء (عليها السلام) بقولها: ( وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ ، مُذْقَةَ الشّارِبِ ، وَنُهْزَةَ الطّامِعِ ، وَقُبْسَةَ الْعَجْلانِ ، وَمَوْطِئَ الأقْدامِ ، تَشْرَبُونَ الطّرْقَ ، وَتَقْتاتُونَ القَدَّ والْوَرَقَ ، أذِلَّةً خاسِئِينَ ، {تَخافُونَ أنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ} . فأنقذكم اللهُ تَبارَكَ وَتَعالى بِمُحَمَّدٍ صَلى الله عليه وآله ).
والمتتبعُ لحياةِ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يرى أنه انتشل هذا المجتمعَ بأخلاقهِ الحميدة، ولكن كيف تعاملتِ الأمةُ مع أهل بيته بعد رحيله ؟، والتي يصفها الشاعر محمد بن سعد الصيفي البغدادي بقوله :
مَلكْنا فكان العَفْو منَّا سَجيَّةً فلمَّا ملكْـتُمْ سالَ بالــدَّمِ أبْطَــــــــحُ
وحَلَّلْتُمُ قتلَ الأسارى وطالَمـا غَدوْنا عن الأسْرى نَعفُّ ونصفَــــحُ
فحسْبُكُمُ هذا التَّفاوتُ بيْنَنا وكلُّ إِنــــاءٍ بالــذي فــيهِ يَنْضَـــــــحُ
فالأخلاق هي الصفة الأساسية لبناء إنسانية الإنسان أو تسافلها، فكلما تحلى الإنسان بالأخلاق الحميدة ازداد رقياً نحو الكمال ، وكلما ابتعد عنها تسافل وتدنى نحو سوء العاقبة، فالمعيار الأساسي لبناء الإنسان هو حسن الخلق فقد ورد في الحديث : ( ليس في الميزان أثقلُ من حُسْنِ الخلق ) وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) : (الخلق وعاء الدين) ، وقد عرّف أهل اللغة الخُلُق بأنه: (الدين والطبع والسجية)
فالأخلاقُ الحَسَنَةِ هيئةٌ ثابتةٌ وراسخةٌ في نفس الإنسان ناتجةٌ عن كثرة المواضبة عليها فهي تمثل سجيةٌ وعادةٌ لصاحبها كلما أُتيحت الفرصةُ جيء بها كالعفو والتسامحِ والشجاعةِ والكرم، فرغم الأذى الذي أصابَ النبيَ (صلى الله عليه وآله وسلم) من قريش، أنظر كيف تعامل النبيُ معهم، فقد روي عندما فتح مكة عنوة خطب على باب الكعبة ثم قال : ( يا معشر قريش! ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيراً، أخٌ كريم، وابن أخٍ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء) .
فبهذه الأخلاق النبيلة استطاع النبي أن يفتحَ مكة وينشرَ الدينَ الإسلامي، ومن هذا المنطلق نستطيع أن نقول أن العلاقةَ بين الدين والأخلاق في المنظومة الإسلامية علاقةُ التلازم أي : لا يمكن التفكيكُ بينهما إلى درجةٍ عُدَّ الدين هو الأخلاق ، فقد روي أن رجلاً جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بين يديه فقال : يا رسول الله ما الدين؟ فقال : حُسن الخُلق، ثم أتاه عن يمينه فقال : ما الدين؟ فقال : حُسن الخُلق، ثم أتاه من قِبل شماله فقال: ما الدين؟ فقال : حُسن الخُلق.
فبهذا الحديث وغيره من الأحاديث يظهر لنا جلياً بأنَّ الدينَ هو حُسنُ الخُلق والعكسَ صحيحٌ، ويقول السيد الطباطبائي: ( أن روحَ التوحيدِ ساريةٌ في الأخلاق الكريمة التي يندب إليها هذا الدينُ ، وروحُ الأخلاقِ منتشرةٌ في الأعمالِ التي يُكَلَّفُ بها أفرادُ المجتمع ، فالجميعُ من أجزاءِ الدين الإسلامي ترجعُ بالتحليلِ إلى التوحيدِ ، والتوحيدُ بالتركيبِ يصيرُ هو الأخلاقُ والأعمال) ، فالدينُ بلا أخلاقٍ لا قيمةَ له، والأخلاقُ بلا دينٍ لا قيمةَ لها، ومن هنا يتضح لنا عدمَ إمكانيةِ التفكيكِ بين الدينِ والأخلاقِ لأن الدينَ هو الأخلاق، نعم يوجد هناك تفاوتٌ أخلاقي بين أفرادِ المجتمع بحسب المقدمات التي عندهم ، فأخلاقُ الأنبياءِ والأوصياءِ تختلفُ عن غيرهم، بل هناكَ تفاوتٌ حتى عند الأنبياءِ فلم يصلْ أحدٌ منهم إلى ما وصلَ إليه النبيُ الخاتمُ بشهادة القرآن : ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾، ومن هذا المنطلقِ أصبحَ أهلاً لحملِ أعظمِ رسالةٍ نزلتْ من السماء متمثلةً بالقرآن الكريم الذي فيه تبيان لكل شيء .
من هنا يظهرُ أن أيَّ واعظٍ أو حاملِ رسالةٍ لابد أن يكون كُفْؤاً لما يحمل حتى يكون مؤثراً ومنتجاً في المجتمع ، لأن أي رسالةٍ لاتكونُ فاعلةً ومؤثرةً وتؤدي دورهَا في حياةِ الأمةِ إذا لم يكن حاملُها مستوعباً لها ومجسِدَها في سلوكه قولاً وفعلاً ، وكما يقول الحكماء: (الواعظ إذا لم يكن متعظاً فلا يؤثر في القلوب ولا يهذب النفوس) ، ولهذا نرى كثيراً من الدعوات غير الإلهية تفشل بسبب عدم تجسيدها من قِبل أصحابها، بل أكثرُ من ذلك في بعض الأحيان تنعكس سلبياً عليه وعلى المجتمع ، كما نرى في مجتمعنا كثيراً ممن يدعي الإصلاحَ والأمانةَ والاعتدال ، وهو بنفسه
يحتاجُ إلى إصلاح ، فهو في هذه الحالة يُفسِدُ من حيث يشعر أو لا يشعر فيصبحُ مصداقاً لقوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ) ؛ وأما في عراقنا الحبيب فكثيرٌ منهم يشعرون لانهم يمثلون أجنداتٍ تَهْدِفُ إلى هدمِ القيمِ والمبادئِ الإسلامية .
لذا يجب علينا كمجتمعٍ إسلاميٍ أن نتأسى بأخلاق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونقفَ بوجهِ كلِ مَنْ يريدُ إفراغَ المجتمعِ الإسلامي من القيمِ والمبادئ الأخلاقية التي يحملُها، من خلال سَنِّ قوانينَ مطابقةٍ لما تريدُهُ الشريعةُ الإسلاميةُ والعملَ بها والوقوفَ بوجهِ كلِ من يريدُ تفكيكَ المجتمعِ الإسلامي، وعلى رأسهم أمريكا وإسرائيل التي عجزت بحروبها المتكررة في المنطقة من السيطرة على الجانب الأخلاقي للمجتمع الإسلامي، فاتجهت نحو الحربَ الناعمة التي تعمل على إفراغ الأمةِ الإسلامية من الجانب الروحي والأخلاقي بدواعي الحريةِ والديمقراطيةِ التي حققت نجاحاً كبيراً في المجتمع الغربي من خلال سَنِّ قوانينَ مخالفةٍ للقوانينَ الإلهية، والتي أوصلتْ المجتمعَ الغربي للانهيار الأخلاقي، وعيشِ الحياةِ الحيوانية بشتى ألوانِها وأشكالها، إلى درجة إقرار الزواج المثلي الذي تحرمه جميعُ الأديانِ وفطرةَُ الإنسان ، ولكن لم يعترضوا عليه لأنهم جعلوه من ضمن الحريات الفردية، لذا نرى الغربَ الكافرَ وأذنابَهم من أبناءِ البغايا غيروا بوصلة المعركةِ من عسكريةٍ إلى ثقافية ، لقتل الدين الإسلامي تحت عنوان الحرية والديمقراطية وغيرها من العناوين التي تدعو للانفتاح اللاأخلاقي والتي ترمي إلى إفراغ الشاب المسلم من الطاقة الايمانية التي يمتلكها، فعملوا على فتح وتصدير المواقع الإباحية بدون أي رقابة، أو نجدهم بين الحين والآخر يخرجوا إلينا بقانون جديد يبتغون منه الانهيار الأخلاقي ، وآخرها ما أُرِيدَ لنا من سن قانون العنف الأسري الذي يرمي إلى إسقاط ولاية الأب إذا بلغ أبناءه سن البلوغ، فيصبح لهم مطلق الحرية بالدخول والخروج من البيت وادخال من يشاؤون إليه دون مراعاة حريم البيت ، فظاهر هكذا قوانين أنيق يحمل سمة الإنسانية، ويحفظ حرية الفرد ، ولكن باطنه عميق يعمل على إضعاف الجانب الروحي والأخلاقي لدى الشاب المسلم، وهي خطوة أولى نحو الانحراف الذي يخطط له شياطين الجن والأنس
لذا نجد الباري عز وجل يُحذّر المؤمنين من هذه المخططات الشيطانية، قال تعالى: (ياأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَٰنِ ۚ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَٰنِ فَإِنَّهُۥ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشاء والمُنكَرِ )
وقد كان لسماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) خطاباتٍ عديدةً بيَّن فيها المخططاتِ الشيطانيةِ التي أُعدت للمنطقة بالعموم والعراق بالخصوص، موضحاً بخطابه الأخير الموسوم (لَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَٰانِ) كيفية بدء الانحراف الأخلاقي والسياسي والاجتماعي وغيرها من الانحرافات من خلال بيان تراتُبية خطوات الشيطان في إغواء المجتمع، والذي يدخل في بعض الأحيان من عمل غير محرم شرعاً لكنه طريق للوقوع في المعصية .
أيها الأحبة ..
إن للمنظومة الأخلاقية آثار عظيمة في حياة الإنسان، فإذا التزم بها نال السعادة الدنيوية والأخروية، وإذا تخلف عنها شقي في الدنيا وخسر في الآخرة، لذا نرى أن الهدف الأساسي من بعثة الأنبياء هو تحسين خُلق المجتمع المنغمس بالرذيلة التي زيّنها لهم شياطين الجن والإنس، فنجد النبيَ يصرح بالهدف المبعوث من أجله بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (إنما بُعثت لأتممَ مكارم الأخلاق) .
فطريقُ تهذيبِ النفس الذي جاء به النبيُ (صلى الله عليه وآله وسلم) مفتوحٌ للجميع ، لأنه كما قلنا بأن الأخلاقَ الحميدةَ هيأةٌ راسخةٌ في نفس الإنسان فقط تحتاج إلى محركية، والشيء العارض علينا هو سوء الخُلُق قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْـزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} ، فحُسن الخُلق لا يحتاج إلَّا لتفعيلّ من قِبلنا وإظهارِه إلى الخارج من خلال العمل الصالح الذي أوصانا به الباري عز وجل على لسان أنبيائه وأصفيائه قال تعالى: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) والذي ترجمه أمير المؤمنين j للوصول إليه بقوله: «حُسنُ الخُلقِ في ثَلاثٍ: اجْتِنابُ المَحارِمِ، وطَلَبُ الحَلالِ، والتَّوَسُّعُ على العِيالِ»
#الخطبة_الثانية
عنوان الخطبة : جبهة الإسلام في مواجهة التيارات المنحرفة
قال تبارك وتعالى :
{ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً } (الأحزاب – ٦٠)
تناولت هذه الآية المباركة الستون من سورة الأحزاب طوائف عدة في جبهة المسلمين ، وفي الحقيقة لم يكن مسرحُ الحياة يومذاك يحتضن جبهتين كما يتصور البعض أو كما يحلو أن يصوره لنا الآخرون ، جبهة الحق التي يمثلها المسلمون وجبهة الباطل التي مثلها الكافرون ، وقد يكون هذا التصور بمعنى من المعاني صحيحاً لما كان الصراع في مكة ، لكن لما أسس النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) دولة المدينة تعددت الطوائف والتيارات والجبهات ، فكان بين تلك الجبهتين الرئيسيتين تياراتٌ عدة ، أولُها تيارُ المنافقين ، وكثيرٌ من المفسرين يقتصرون على هذا التيار وكل ما ورد من اشاراتٍ وتعابيرٍ وأوصافٍ أخرى في القرآن تعني بنظرهم هي أوصافٌ لجبهة المنافقين ذاتِها .
فالذين في قلوبهم مرض اعتبروها وصفاً آخر للمنافقين وكذا وصف المرجفين ، وربما هناك اشارة للتمييز بينهم أوردها صاحب الميزان في تفسير سورة الأحزاب في ( قوله تعالى: «وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّـهُ وَ رَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً» الذين في قلوبهم مرض هم ضعفاء الإيمان من المؤمنين ، وهم غير المنافقين الذين يظهرون الإيمان و يبطنون الكفر، و إنما سمى المنافقون الرسول لمكان إظهارهم الإسلام ) .
وأقول :
أولاً : إن اجتماع هذه الأوصاف في خطابٍ واحد دليلٌ على عدم وحدةِ المصداق خارجاً ، وكما يقال في الفقه اذا افترقت الأوصاف المتشابهة دليلٌ على وحدتها وإذا اجتمعت دليلٌ على افتراقها وبعبارتهم اذا اجتمعت افترقت واذا افترقت اجتمعت ، وإن ورودها في هذه الآية مجتمعةٌ دليلٌ على أن كل واحدة منهم تعني شيئاً مغايراً عن البقية .
ثانياً : إن المنافقين والذين في قلوبهم مرض والمرجفين ، أوصافٌ لتياراتٍ وجبهاتٍ مختلفة عن بعضها البعض ، وإن كانت تصب في مصبٍ واحد بالأخير وهي زعزعة أمن المسلمين واضعاف جبهتهم ، بيد أن لكل تيارٍ منهم مهمةُ تغاير الآخر وتصب في مصلحة أعداء الحق ، ولكلٍ من هذه الجبهات كانت مشروعٌ تستهدف من خلاله تسقيط مقدسٍ رمزٍ أو كيانٍ في صفوف المسلمين ، فالله الرمزُ الأعلى والأقدس ، ويمثل محورَ العقيدة عند المسلمين ، والمساس به مساسٌ للدين بأكمله ، استهدفته جبهة المنافقين لتسقيطه والتشكيك بوحدانيته واضعاف الشريعة المرتبطة به والاستخفاف بأحكامها ، وأما الذين في قلوبهم مرض كانوا يمثلون أصحاب الشهوات وكل ما يتعلق بها ، وإن كانت الاية ذكرتهم في مورد النساء واستتباعهم لهنَّ ، وشهوةُ النساء وأصرحُ وأكثرُ سلوكٍ عُرِفَ بها أصحاب القلوب المريضة ، لذلك ذكرهم القرآن الكريم في هذا الموطن أي موطن النساء وعرَّفهم بها ، وهذا لا يعني انحصار مرض القلوب والشهوات به ، فحب الدنيا وتفرعاته من جمع المال والتسلط على الآخرين والتفرد بالقرار والاعجاب بالذات والتكبر على الاخرين واستصغارهم كلها نتائج مرض القلوب ؛ وأما المرجفون فهم المشككون وأصحاب وأصحابُ الأخبار الكاذبة ومهمتهُم زعزعةَ استقرار أمن الأمة والدولة يوم ذاك ولعل بعضهم من المسلمين ولكنهم عادةً تضعف ثقتهم بما يؤمنون به فينجرفون وراءَ المشككين والمضعفين ،
توزعت هذه التيارات بين صفوف المسلمين حسب مهماتها ، فأما المنافقون وهم يمثلون تياراً عقائدياً منحرفاً استهدفَ عقيدةَ التوحيد والتشكيك بها وهؤلاء أظهروا الإيمان واستبطنوا الكفر والشرك ، ليجدوا لهم مكاناً وملاذاً آمناً بين المسلمين ، فاستهدفوا الرؤيةَ التي أساسها الله تبارك وتعالى والتشكيك بعقيدة التوحيد ، وأما الذين في قلوبهم مرض استهدفوا القاعدة أي المسلمين وسعوا لإثارة الفوضى في المجتمع وكانوا يتتبعون النساء ليلاً ممن تخرج لقضاء حاجتها ، فيثبون عليها ويعتدون جنسياً وفي النهار يرغبون النساء بالتجري على حدود الشريعة خصوصاً الجواري لذا سبقتها الآية بطلب لبس الخمار والجلابيب على جميع النساء حتى لا تتميز الحرة الذي كان ملبسها الخمار دون الجواري ، وحتى لاتعرف ذات الشرف والحسب عن بنات الفقراء والبسطاء ، فابتدأت الأية بأمرِ النبي أزواجه وبناته ومن ثم نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن ؛ وأما المرجفون فكانوا يمثلون الماكنة الاعلامية والدعائية التي تنشر الأكاذيب والتضليل والتقسيط لزعزعة أمن المسلمين ونقض استقرار مجتمع المدينة وكانت مهمتهم استهداف شخص النبي الأكرم وشخصيته أولاً وبالذات ، فما من حربٍ خرج إليها المجاهدون ،إلا وابتدت تحركاتهم بنشر الذعرِ في أوساط المسلمين من خلال إشاعة أكاذيب مقتل النبي ، أو التشكيك بعدالته ونزاهته بتوزيع الحقوق والفيئ بين المجاهدين والمستضعفين وإدارته لأمور الدولة ، أو نشر أخبارٍ عن انهزام المسلمين في أي معركة يخرجون إليها ، وكانت فرقةٌ منهم تخرج
مع المجاهدين لبثِ الذعر وكسرِ العزيمة وتثبيطِ همةِ المقاتلين والتشويش على قيادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وادارته للمعركة ، فأشار القرآن الكريم لهؤلاء وانتشارهم في صفوف المقاتلين ، قال الحق تبارك وتعالى { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَ فِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَ اللَّـهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } (التوبة – ٤٧) ، فكانت جبهاتٌ وتياراتٌ تعمل ضمن أجنداتٍ محددة . من استهداف العقيدة ومعتقداتها عبر المنافقين ، واستهداف القائد عبر المرجفين ، واستهداف المسلمين عبر مرضى القلوب .
ولا تخلو اليوم جبهة الحق من انتشار أمثال هذه الجبهات سواء بالانتماء الفعلي أو بسبب ضعفِ المعرفةِ وقلةِ الوعي فيكون البعضُ مصداقَ هذه التيارات ، فالتشكيك بالمشروع ، وأهميته ودور الاصلاح وضرورته ، فعلٌ من أفعال المنافقين يومذاك ، وأما استهداف الرموز والقيادات بمختلف مؤسسات المشروع لايختلف عن دور المرجفين ، الذين يتبعون شهواتهم بما اغرتهم الدنيا وزهرتُها ، وبريق السلطة بزهو مناصبها ، فهم لا يختلفون كثيراً عن مرضى القلوب ماداموا قدموا دنياهم على دينهم ، وشهواتها على رسالتهم ، فأصبحوا مهووسين بالتشكيك وضرب رموزهم وتقليل شأنهم وشأن مؤسساتهم مدامت ذواتهم أمام أعينهم ، كما لا شك أن في كل زمان وحين تظهر مع كل خطٍ رسالي يمثل الحق جيوبٌ تعتاش عليه أو تحاول دحض الدين ومحق الحق فيظهر المرجفون الذين يشككون بقدرة قيادته ورمزيته، كما لا تسلم أفعال الرمز من بعض الأراجيف ومخالفتهم أوامرها على نحو تصويب فعلها تارة ، او رسمِ فعلٍ هي تراه صواباً على القيادة ممارسته .
إن منشأ هذه الأمراض نفسية وضعف البصيرة وضبابية الصورة عن المشروعِ والقيادة ، والنظر بعين الارتياح لخطوطٍ أخرى وجهاتٍ نظيرةٍ لخطهم ناشئ من ضعف الإيمان بما تخطه قيادتهم ، والجهل بصحة فعلها أصله ضعف الوعي أو انعدامه ، وان اتباع النبي الأكرم صلى الله عليه وآله لا ينحصر بحبه ، بل باتباعه والانصياع لأوامره واحترام تشكيلاته والفناء والاندكاك فيها عسكريةً كانت أم دينيةً اجتماعية ، قال تبارك وتعالى { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ اللَّـهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (آل عمران – ٣١) فالحبُ الحقيقي والمُرضِي اتباعُ القيادة والرضا بما رضيت ، واحترامها من احترام مؤسساتها والعمل فيها دون التعالي عليها .
كما أن أي فشلٍ تصاب به جبهة الحق لا يعني نهاية الطريق كالذي حصل في معركة أُحُد ، بل قد يكونُ بدايةَ التصحيح والمراجعة لمعرفةِ الخلل والزلل ، فخسارةُ أُحُد كسرت خُيَلاءَ البعض ممن تَرَفَّعَ على الأخرين غرورا ورأى نفسه قائداً يحق له اتخاذ القرارات دون الرجوع لقيادته أو مشاورة أخوته في مشروعه ، فضعف طاعتُه وكَبُرَتْ أناتُهُ ، فالمكاشفة واعادة النظر وتصحيح الخلال كانت من أولويات القرآن وادارة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ، وكانت من نتائجها عبور أزمةٍ أكبرَ مما حلَّ بهم ، تمثلت إما بموتهم وانتهاء الرسالة ، أو إثبات الوجود والقوة لتحقيق النصر ونشر الدين ، كالأزمة التي حصلت في معركة الخندق وصعوباتها .
إن أغلب المسلمين استشعروا مرّ الهزيمة في أُحُد ، فانكسرت عزائمهم وضعفت هممهم ، بَيْدَ أن القرآن كان يربي الأمة على عدم الاستسلام مهما كانت الصعوبات ، وليست كل النتائج التي تبدو لهم هي في الواقع ناشئة عن رؤية صحيحة فلربما ما نراه خيراً ليس بالخير ، وما يمكن أن نراه شراً فليس بشر ، قال تبارك وتعالى { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اللَّـهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } (البقرة – ٢١٦)
إن الخسارةَ في جبهةِ الحق دعت الجميع قياداتٍ وكياناتٍ وأفراداً لمراجعةِ ذواتهم وذوات مؤسساتهم لأخذ العبرة والسعي للتصحيح ، لم تكن أُحُد وخسارتها باباً للإحباط والانكسار والاستسلام للهزيمة ، فرسول الله (صلى الله عليه وآله) خرج عقب أُحُد يستتبع المشركون دون أن تضعف همته ، وأخذ معه من جُرِحوا أو مَنْ فقد شهيداً في المعركة لأن مثلَ هؤلاء لا تضعف هممهم ويستشعرون مسؤوليتهم ، وكم من تيارِ حقٍ كبا فكانت له حمراءَ الأسد .
أيه الاحبة .
إن الإيمان الصادق والعمل الصالح المستند على اتباع القيادة الحقة وتنفيذ مشروعها ، كفيل بتحقيق النصر فإن الله وعد نبيه الكريم والذين آمنوا معه إذا ما استندوا على هاتين الدعامتين ممزوجة بالهمة والعزم العاليين بالتمكين لتنفيذ مشروعهم الاصلاحي ، قال تبارك وتعالى { وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ } (النور – ٥٥)