أقيمت الخطبة الموحدة لصلاة الجمعة المباركة في مدينة الناصرية – مصلى انصار الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشریف) بإمامة الشيخ ضياء السهلاني.
وبدأ الشيخ خطبته بقوله تعالى: “(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً)١
يمر الإنسان في عالم الدنيا بعدة اختبارات قد يؤدي بعضها الى سقوطه فيها لأسباب كثيرة، ولكن هذا الإنحراف والفشل في الإختبارات لا يعني نهاية المطاف ،لأن كرم الله ورحمته غير متناهية لعباده، فبلطفه وعنايته فتح لهم باباً ليكفروا عن خطاياهم أسماه التوبة، وقد أشار الامام السجاد(عليه السلام) في مناجاة التائبين الى هذه الحقيقية بقوله: ( إِلهِي أَنْتَ الَّذِي فَتَحْتَ لِعِبَادِكَ بَابَاً إِلى عَفْوِكَ سَمَّيْتَهُ التَّوْبَةَ، فَقُلْتَ تُوبُوا إِلى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً)٢
والتوبة في اللغة تعني: الإعتراف والندم والإقلاع، والعَزْم على ألّا يعاود الإنسان ما اقترفه. ومنه قولهم: :- التَّوْبَةُ تُذْهِبُ الحَوْبَةَ”.٣
أما اصطلاحاً: فهو نفس المعنى اللغوي مع اضافة قيد ارجاع كل ذي حق حقه مع الإمكان”.٤
وتابع “وبما أن الإنسان غير معصوم من الخطأ – إلا من نص عليه الدليل – فغالباً ما يكون معرضاً للوقوع في الذنوب والمعاصي، فإذا سقط في فخاخ الشيطان ولم يجد أبواب العودة الى الطريق الصحيح مفتوحة أمامه فسوف يصاب باليأس والإحباط كما يحصل مع كثير من الناس عندما يمر بظرف معين ولم يجد فرصة للعودة لبناء نفسه من جديد، نتيجة بعض الأحكام الوضعية التي تتبناها الدول الإسلامية وغير الإسلامية فنجده يلتجأ الى الإنتحار، لأنه لا يجد قيمة لحياته بعد ذلك، عكس النظرية الإسلامية التي تزرع روح الأمل فيه من جديد”.
وأضاف “لذا تعتبر التوبة من أهم الأصول الإسلامية التي حث عليها الشارع المقدس لانتشال الإنسان من مستنقع الذنوب، ولولاها لما نجا احد الا ما رحم ربي، فحقيقة التوبة ولادة وإشراقة جديدة للإنسان إذا استيقظ ضميره الإنساني وعمل على طي الماضي والعمل للمستقبل، مع ملاحظة بعض الأمور التي يمكن له علاجها، وهذا ما أشارت له كثير من الآيات القرآنية قال تعالى: ﴿ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾٥، وتوبة من الباري على العبد تعني حذف المعصية التي ارتكبها وهذا ما ينص عليه حديث الإمام الصادق (عليه السلام)، فعن معاوية ابن وهب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إذا تاب العبد توبةً نصوحاً أحبه الله فستر عليه في الدنيا والآخرة، فقلت: وكيف يستر عليه؟ قال: ينسي ملكيه وما كتبا عليه من الذنوب ويوحي إلى جوارحه: اكتمي عليه ذنوبه ويوحي إلى بقاع الأرض اكتمي ما كان يعمل عليك من الذنوب، فيلقى الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب»٦ والشواهد على ذلك كثيرة”.
وأكمل “فعندما حاصر النبي (صلى الله عليه وآله) بني قريضة قالوا له: ابعث إلينا أبا لبابة نستشيره في أمرنا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا أبا لبابة ائت حلفاءك ومواليك، فأتاهم فقالوا له: يا أبا لبابة ما ترى؟ أننزل على حكم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: أنزلوا واعلموا أن حكمه فيكم هو الذبح، وأشار إلى حلقه، ثم ندم على ذلك فقال: خنت الله ورسوله، ونزل من حصنهم ولم يرجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومرّ إلى المسجد وشد في عنقه حبلاً، ثم شده إلى الأسطوانة التي كانت تسمى أسطوانة التوبة وقال لا أحله حتى أموت أو يتوب الله عليّ، فبلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: أما لو أتانا لاستغفرنا الله له، فأما إذا قصد إلى ربه فالله أولى به، وكان أبو لبابة يصوم النهار ويأكل بالليل ما يمسك رمقه، وكانت بنته تأتيه بعشائه، وتحله عند قضاء الحاجة، فلما كان بعد ذلك ورسول الله في بيت أم سلمة نزلت توبته، فقال: يا أم سلمة قد تاب الله على أبي لبابة، فقالت: يا رسول الله أفأؤذنه بذلك؟ فقال: لتفعلنَّ فأخرجت رأسها من الحجرة فقالت : يا أبا لبابة أبشر قد تاب الله عليك، فقال: الحمد لله، فوثب المسلمون يحلّونه، فقال: لا والله حتى يحلّني رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيده فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا أبا لبابة قد تاب الله عليك توبة لو ولدت من أمك يومك هذا لكفاك، فقال: يا رسول الله أفأتصدق بما لي كله؟ قال: لا، قال:فبثلثيه؟ قال: لا، قال: فبنصفه قال: لا، قال: فبثلثه؟ قال: نعم، فأنزل الله:
(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾”.٧
وأردف بالقول “والشاهد في هذه القصة أن النبي (صلى الله عليه وآله) إشارة للتوبة الحقيقية أنها بمثابة الولادة الجديدة، لأن الإنسان كما تعلمون يولد خالياً من الذنوب والمعاصي وتستمر معه هذه الحالة الى سن البلوغ، ولأن الإنسان بالصورة الطبيعية يمر في عالم الدنيا بثلاث مراحل قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا)٨
(مرحلة الطفولة ، ومرحلة الشباب ، ومرحلة الشيخوخة)
فالمرحلة الأولى : تعتبر الركيزة الأساسية لكل انسان مع انه غير مكلف من الناحية الشرعية بالأوامر الإلهية فلو مات فيها مات خالياً من الذنوب والمعاصي لكن الشارع المقدس حثّ على الاهتمام بهذه الطبقة وتعليمها كي تكون مهيئة بشكل جيد لاستقبال وتطبيق ما يريده الباري عز وجل في المراحل القادمة فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال : (إنّما قلبُ الحدَث كالأرض الخالية، ما أُلقيَ فيها مِن شيءٍ إلاّ قَبِلَته)٩ وقال … وقال … فإذا قمنا بواجبنا اتجاه أبنائنا سوف نخفف عنهم عناء المرحلة الثانية -مرحلة الشباب – والتي تعتبر من أخطر المراحل التي يمر بها الانسان خصوصاً في بدايتها، لأنها مرحلة تحول من الطفولة الى البلوغ – وهي ما يمر بها جسم الانسان من تحولات فسلجية وتحرك الغرائز الشهوية والميول الجنسي الى الطرف الاخر والتي يعبر عنها بمصطلح المراهقة اي بداية سن الشباب – وهو من أخطر المراحل التي يمر بها الانسان خصوصاً مع هذا الانفتاح الذي يشهده العالم بأسره عبر أدوات التواصل الاجتماعي، فضلاً عمّا موجود بالعالم الحقيقي، كذلك توجد انتقالة أخرى في حياته وهي مرحلة التكليف الوجوبي للأوامر الإلهية التي لم يكن مشمولاً بها قبل البلوغ، فتعد مرحلة الشباب مرحلة تحديد مستقبل الإنسان الدنيوية والأخروية بنحو ٨٥٪ لأنها من أعظم مراحل التكامل الجسمي والعقلي التي يمر بها الإنسان مع كثرة الاختبارات في هذه المرحلة من ناحية السيطرة على القوة الشهوية والميول العاطفي الذي يمر به الإنسان في بدايات شبابه ومحاولة اشباعها بأي طريقة كانت من جهة، ومن جهة أخرى الامتثال للأوامر الإلهية وعلى رأسها الصلاة، فنجد كثيراً من الشباب يصلي لكنه يفعل كثير من المحرمات، وهذا التناقض الذي نلاحظه في حياة كثير من الشباب هو بسبب بعض التقصير من الأبوين في مرحلة الطفولة والبعض الاخر يعود إلى عدم السيطرة على الغرائز بسبب الانفتاح الذي اشرنا اليه وأسباب أخرى كثيرة تسقط الانسان في معترك الذنوب والمعاصي، لذا نجد كثير من الروايات تؤكد على استغلال هذه المرحلة التي يمر بها الإنسان بشكل ايجابي وعدم اهدار هذه المرحلة بملذات زائلة زينها لهم الشيطان”.
وأكمل “ففي وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ( يا أبا ذر، اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، يا أبا ذر، إياك والتسويف بأملك، فإنك بيومك ولست بما بعده، يا أبا ذر إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح، وخذ من صحتك قبل سقمك )١٠
فعلى الشباب استغلال هذه المحطة من حياتهم والابتعاد عن ملذات الدنيا المحرمة الزائلة كي تكون له عوناً في مرحلة الرجوع القهقري (الشيخوخة) التي يفقد بها قواه، وهي مرحلة الوقت الضائع وان كان باب التوبة مفتوح في كل زمان لكن من الصعوبة ان يتغير الانسان وينتهج المنهج الصحيح في مرحلة الشيخوخة كما اشارت الروايات، يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إذا بلغ الرجل أربعين سنة ولم يغلب خيره شره قبل الشيطان بين عينيه وقال: هذا وجه لا يفلح)١١ ، وعن الإمام الباقر (عليه السلام): (إذا أتت على العبد أربعون سنة قيل له: خذ حذرك، فإنك غير معذور، وليس ابن أربعين سنة أحق بالعذر من ابن عشرين سنة)١٢ ، وهذا لا يعني ان باب التوبة قد اغلق بل هو مفتوح في كل زمان كما جاء في الحديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) في آخر خطبة خطبها: «من تاب قبل موته بسنة، تاب الله عليه، ثم قال: إن السنة لكثيرة، من تاب قبل موته بشهر، تاب الله عليه، ثم قال: إن الشهر لكثير، ومن تاب قبل موته بجمعة تاب الله عليه، ثم قال: إن الجمعة لكثيرة ومن تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه، ثم قال: إن يوماً لكثير، ومن تاب قبل موته بساعة، تاب الله عليه، ثم قال: وإن الساعة لكثيرة، ومن تاب وقد بلغت نفسه هذه ـ وأهوى بيده إلى حلقه ـ تاب الله عليه”١٣ فعلى الإنسان ان لا يصل الى هذه المرحلة وان يغتنم نعمة الشباب ومحطات التوبة الأخرى . خصوصاً ونحن على أعتاب أعظم محطة إلهية لولادة الإنسان من جديد وإرجاعه ورقة بيضاء وهي محطة يوم عرفة الذي عبر عنه سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله الشريف) بـ يوم التوبة العالمي لاشتراك جميع البشرية فيه على حد سواء ( فهو يوم عظيم عند الله فيه يتساوى الابيض والاسود والغني والفقير والمسؤول والكاسب عند الوقوف في المشعر الحرام متجردين من لباس الدنيا متجهين نحو ساحة الفيض الالهي طالبين رحمة الله التي خصصها لهذا اليوم فعرفة تعني الاحتراف بالذنب فاذا تحققت التوبة النصوح من الإنسان رجع خالي من الذنوب والمعاصي )”.
وأشار إلى أن “عن النبي (صلى الله عليه وآله): ” مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِى بِهِمُ الْمَلاَئِكَةَ “١٤
وهذا لا يعني اختصاص هذا اليوم بمن تواجد في ارض عرفات بل هو عام لجميع اهل الدنيا في جميع بقاع الأرض، بل ورد في بعض الروايات ان الله ينظر لزوار الحسين (عليه السلام) قبل ان ينظر الى حجاجه بعرفات، فهذه المحطة عامة للجميع، فعلى الانسان ان يغتنم الفرص، فاذا رأى الله من العبد حسن النية والاقدام الحقيقي للتوبة فإن الله يتوب عليه، بل ازيد من ذلك فإن الله يأمر بتحويل سيئاته الى حسنات قال تعالى:(إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَٰلِحًا فَأُوْلَٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّـَٔاتِهِمْ حَسَنَٰتٍۢ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)١٥
فعلى الإنسان ان لا ييأس من رَوح الله ويعمل جاداً في الرجوع الى الله ولو كانت ذنوبه كزبد البحر فإن باب الله مفتوح للتائبين وهم محط عنايته ورحمته اذا كانت هناك ارادة جدية منهم للرجوع اليه وهو القائل في كتابه الكريم :(اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾”.١٦
جعلنا الله وإياكم من المستغفرين التائبين الحامدين الشاكرين انه سميع الدعاء والحمد لله رب العالمين.
لتصلك آخر الأخبار تابعنا على قناتنا على تلغرام: النعيم نيوز
كما يمكنك الاشتراك على قناتنا على منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية